نقلاً عن

جورج يرق، ورواية أولى …

عبده وازن يكتب في “الحياة”:
جورج يَرَق روائي يولد في الخمسين
——————————-
كتب الشاعر والناقد عبده وازن في جريدة “الحياة” عن الروائي اللبناني جورج يرق مقالاً عنوانه “روائي يولد في الخمسين”.
في ما يأتي لينك المقال ونصه:

أمضى جورج يرق ردحاً من عمره يُعمِل قلمه في روايات الآخرين، مصحِّحاً ومنقِّحاً ومعاوداً كتابة أجزاء منها ومتدخِّلاً في أحيان بصوغ الجمل والمقاطع برضا الكتّاب والناشرين على السواء. بعض هذه الروايات كان يعود إلى كتّاب معروفين ما كانوا ليعترضوا على مرور قلمه بين سطورهم، وكانت الدور، ومنها على سبيل المثل دار الساقي، تطمئنّ إلى صنعته، ولا تتردد في تسليمه المخطوطات، لاسيما المهمّة منها، ليقرأها بتأن و «يطهّرها» من الأخطاء والهفوات والركاكة والهزال… وكان هذا المتأدّب الشاب يعمل بصمت وسرية، بعدما وجد في هذه المهنة عائداً مادياً يفوق ما يعود إليه جراء عمله في تعليم الأدب العربي أو الصحافة، التي لم ينقطع عنها تماماً. ولعلّ ما جعله يتقاعس عن الكتابة طول تلك الأعوام هو هوسه اللغوي ونزعته «المتحذلقة» ودقته في الكتابة وتأنيه ومراسه الصعب، وهو أخذ هذه الخصال عن كتّاب معروفين، قدامى ومحدثين. ولعله واحد من قلة من «المصححين» أو المدققين اللغويين الذين باتوا نادرين عربياً، وكان محمود عساف، الذي رحل أخيراً، واحداً منهم، وهو كانت له يد بيضاء على كتب كثيرة وكتّاب، خصوصا خلال عمله في دار الجديد.
في الخمسين من عمره، شاء جورج يرق أن ينتقل من ميدان «التصحيح» الى ميدان الكتابة، الروائية تحديداً، وباكورته «ليل» لا يمكن إدراجها البتة في خانة الأعمال الاولى، بل هي رواية متينة وجميلة، تنمّ عن تمرّس في فعل السرد والنسج والحبك، علاوة على عمق التجربة الداخلية والبعد الوجودي اللذين يعتريانها. في هذه الرواية يستعيد يرق مأساة الحرب الأهلية ولكن بصفتها ذكرى يحاول بطله مروان حبيب أن يتخلص منها بعدما عاش في جحيمها مقاتلاً في ميليشيا القوات المسيحية. وفي هذا الخيار يخرج يرق عن مناخ رواية الحرب اللبنانية الرائجة التي دارت بمعظمها في قلب المنطقة «الوطنية» واليسارية، وبدا أبطالها عموما يساريين أو مسلمين أو فلسطينيين. وعلى غرار بضعة أعمال قليلة جداً، ومنها قصة «حرب شوارع» لشارل شهوان أو بعض قصص جورج شامي، يخوض يرق متاهة الجبهة «الشرقية» أو المسيحية خلال الحرب، جاعلاً بطله مقاتلاً مسيحياً يعيش حالاً من القلق ، ويضطر إلى الاختفاء ثمّ الاختباء في احد الأديرة بعد سيطرة الجيش السوري على المناطق كافة أو احتلاله إياها. كان اسم هذا المقاتل مدرجاً على لائحة المطلوبين سورياً بعد إدخال قائد القوات السجن، ولم يجد من ملجأ بعد عجزه عن السفر سوى الدير. وخلال الأعوام الأحد عشر التي قضاها في الدير، أكبَّ على القراءة والدراسة الجامعية السرية، فنال شهادة في التاريخ، وخبر معنى الزهد والتوبة والصلاة على رغم نزعته العبثية وشكوكيته… وعندما يخرج الجيش السوري من لبنان مرغماً يخرج مروان حبيب إلى حياته السابقة، حرّاً وفقيراً لا يملك سوى ثقافته وذكرياته وحنينه إلى السهر والشرب والعشق… وعبر الإنترنت يكتشف امرأة كفيفة فيقع في حبها وتقع في حبه وتفتح أمامه باب الانفراج مالاً وحباً وجسداً. واللافت أن ما يجمعهما هو حال التناقض الوجودي، بين نزعة مسيحية إيمانية وميل «ديونيزيسي» ورغبوي. ويعيش كلاهما هذا الصراع بعفوية تامّة، جامعين بين الإيمان والخطيئة.
‏‎رواية بديعة حقاً، في طابعها السردي وفي تداعيها، وفي لغتها الجميلة القائمة على المتانة والسلاسة، على الصنعة لا التصنع واللطافة. ونجح يرق في اعتماد العامية داخل الفصحى المشغولة بتأنق وطراوة. أما الامر الذي يشغل القارئ فهو التشابه بين الراوي والكاتب، ثقافياً ولغوياً طبعاً، وليس من ناحية الطبع أو الكاراكتير. هل يمكن مقاتلاً ميليشيوياً أن يمتلك مثل هذه الثقافة التي يملكها الراوي؟ بل هل يمكن مقاتلاً أن يكون مأخوذاً بهاجس اللغة مثل هذا الرواي؟ لكنّ الكاتب عرف كيف يوضح هذا الالتباس، مذ جعل راويه يعترف في الختام أن الرواية التي يزمع على كتابتها ستحمل اسم جورج يرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى