فرحٌ في دمشق … بقلم جمال فياض
فرح في دمشق …
كتب جمال فيّاض
ما أن وصلتني الدعوة من الصديقة الغالية السيدة هاله خوري لحضور فرح إبنتهاكريستيل في دمشق، شعرت بسعادة الجائع وهو يتلقى وجبة لذيذة جداً، وأنيقة جداً، وممتعة جداً وجداً. دعوة الى دمشق؟ وأنا الذي حرمتني الظروف من زيارتها سنة وأكثر؟ ما هذا الكرم يا ألله؟
منعتنا جائحة الكورونا، من زيارة عاصمة التاريخ، وأولى العواصم على مدى الدهور. أنا الذي تعوّدت أن أزور دمشق في أي وقت، وفي كل المناسبات، بل بدون مناسبة محددة. ها هي الجائحة تنحسر، وللزيارة هذه المرّة طعمها والآخر… هنا دمشق، “وعليكِ عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباحُ”.
إنطلقنا بعدما ملأنا خزان السيارة بالوقود الكافي، وأمامنا مئة كيلومتر بالتمام والكمال حتى نصل الشام بوابة التاريخ، وعزّ الشرق أوله دمشق، أليس هذا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، في سيدة المدن؟
إطلقنا موكباً من ثلاث سيارات، في السيارة الثانية، زوجة الموسيقار الراحل ملحم بركات السيدة رنده، وإبنته غنوه، وصهره المهندس مارك.
بعد إجراءت الحدود والإذن الخاص للزيارة، – صرنا بحاجة لإذن خاص حتى نزور وطننا القريب- دخلنا من ساحة الأمويين، نوافير المياه كما هي دائماً، يحاول الفضاء أن يعانقها، فلا يطالها. فتنثر رذاذ مياهها الباردة من حولها، عربون ترحيب حار بالضيوف والقادمين إليها.
فوراً، الى بيت السيدة هالة، هذا البيت الذي غاب عنه لأول مرة سيده ولواؤه اللواء الراحل منذر رزق، أحد أبطال حرب تشرين المجيدة، هو الطيار الحربي، الذي شارك بانتزاع ثأر سورية والعرب من المحتل في السادس من تشرين الأول عام 1973، وقدم دمه وتركت الحرب أثرها في جسده، لكنه صنع انتصاراً ورفاقه ما زال بحاجة أن نستكمله، ولو بعد حين. غادرنا اللواء الطيّار منذ أقلّ من عامين، بطلاً له تاريخه الجميل. تاركاً الأمانة لشريكته السيدة القديرة، وحبيبة كل من عرفها، والأم التي أبت إلا أن تحقق أمنية الأب الراحل، أن تحتفل بفرح إبنتهما كريستيل، وتشاعدها إبنتها الثانية دانييل الطيارة المدنية، التي تقود منذ أعوام طائرات تحمل السوريين والزائرين الى دمشق، وفيها شجاعة أبيها وقوة شخصيته، وموهبته بقيادة الطائرات، لكنها نقلت هذه الموهبة الى الطيران المدني، لا الحربي.
في دمشق، فندق “إيبلا” الفخم والذي يحاذيه “قصر المؤتمرات” حيث انعقدت فيه القمة العربي، وكانت آخر مرة يجتمع فيها العرب متحدين على أرض الشام. وفراستي تقول، أن الإجتماع القادم في دمشق سيكون أول لقاء قمة للعرب مرة أخرى متحدين، بعدما فرّقتنا الخلافات، ولا بد ستجمعنا الحاجة الى قوة الإتحاد.
فرح كريستيل منذر رزق والمهندس فادي معمّر، كان حلماً من الأحلام، وشاهدناه واقعاً. لم أتوقع أن أحضر مثل هذا الفرح، بالمكان الذي أقيم فيه، وحسن التنمظيم والترتيب. بالأناقة والشياكة وملابس المدعوين. كبار الشخصيات السورية، من وزراء ونواب ومدراء وضباط فاعلين ومتقاعدين، كلهم جاؤوا لتحية روح الأب الغائب الحاضر في يوم فرح إبنته الجميلة، بل الهائلة الجمال بالشكل كما المضمون. وجهاً وروحاً كان الجمال يشعّ من كريستيل، وهي تحقق خطوة العمر الجديدة، والإرتباط الأبدي، حيث ما جمعه الله، لن يفرّقه إنسان.
لن أحكي لكم عن السيدة هالة، اللبنانية الأصول، والسورية الهوية. كانت باقة ورد مليئة بالحيوية تتنقّل بين هؤلاء وأولائك لترضي الجميع وتر؛ذب بهم، وتطمئن على أن السعادة هنا، وليست في مكان آخر.
فرقة الزفّة، كانت كما نعرفها شامية محض، لكنها عادت وامتزجت بالروح اللبنانية والرحبانية، وكان العرض في زفتين، الأولى للعروس، والثانية للعريس … ولكم أن تتخيّلوا الإبهار الذي صنعته هذه العروض التي رافقتها إحتفالية الألعاب النارية الهائلة التأثير.
فرح فيه إبهار لن تجده في مدينة أخرى، حتى أنك تحسب أن ما سمعناه عن حرب في سورية، كان كابوساً، وصحونا منه وهو لم يكن أصلاً. تذهلك سورية بنهوضها الأسرع من المؤامرة عليها.
والآن، إليكم الفنان الكبير شادي جميل. ما هذا؟ يا إلهي العظيم، شادي جميل، الرائع بفرقته الكبيرة، يدخل علينا بوصلة غناء تجعل الحاضرين ينسون كل أنواع الهدوء، فيطير الجميع فرحة وحبوراً. من حلب الى دمشق مع أطيب الطربيات. أكثر من أربع ساعات، لا هو كلّ ولا الحضور ملّ. القدود الحلبية عندما تأتيك من كبير مثل شادي جميل، لن تترك فيك لحظة لا تشعر فيها أنك تطير فرحاً وطرباً. لله درّه هذا الشادي الجميل، إستنزف كل طاقتنا على الفرح، التي إختزناها في سنة طويلة من الحجر الإحتياطي. هكذا بسهرة واحدة، يشعل الروح والقلب والمشاعر. حتى الوزراء والشخصيات العامة، التي عادة تلبي الدعوة لمثل هذه المناسبات، فتجلس قليلاً وتنسحب، إحتجزها شادي جميل بصوته وقدرته على تقييد السامع وأذنيه ومشاعره كلها. فلا غادروا، ولا انسحبوا، بل إستمروا حتى ساعات الفجر الأولى… وكانت السهرة، كما الأحلام.
لا ننسى أن ننوّه بإدارة الفندق، ودقة الخدمة فيه، والإنضباط الشديد لدى العاملين. هكذا كانت الفرحة التي ما توقعناها أن تكون بهذا القدر.
في اليوم الثاني، كان لا بد أن نتابع الفرحة، وعلى ضفاف المسبح الأزرق للفندق الجميل، جسلنا وغنينا أغاني الموسيقار ملحم بركات، وبحضور زوجته وإبنته وصهره، وسمعنا كل الأغاني بصوت المطرب القدير جورج خوري وصوته وأدائه المميز …
ولم يفت العريس أن يتحفنا بصوته، الذي حسب ما سمعناه منه، يؤكّد أنه عريس ممتاز، ومهندس متفوّق، وجيد أنه اكتفى بالهندسة والمقاولات.
لم نكن نتوقع أن تكون الشام كما رأيناها. نظافة الشوارع، ملفتة. شرطي المرور، موجود في كل شارع وعند كل شارة مرور، وعلى كل ناصية. مدينة مثل كل المدن الجميلة والراقية. ماذا بعد؟ ذهبنا الى أقرب دكان، ثم سوبر ماركت، كل ما فيها صنع في سورية. من رغيف الخبز، حتى المعلّبات والأطعمة وكل المواد الغذائية. أكياس الشيبس، السجائر، العصائر، البسكويت والشوكولا وكل ما تشتهيه العين، ممهور بعبارة “صنع في سورية”. ولن أحكي لكم عن الأدوية في الصيدليات التي بأغلبها مصنوعة في سورية.
وفي طريق العودة، خطرت ببالي فكرة، أتمنى أن أراها تتحقّق في أقرب وقت وليس بعد أجيال وعقود قادمة. إن المساحات الشاسعة الواسعة بين الحدودين تكاد تعادل مساحة دولة صغيرة، فما الذي يمنع أن نبني عليها وفيها، مدينة صناعية وتكون بمثابة منطقة حرّة معفاة من الجمارك، يبني فيها اللبنانيون والسوريون مصانع كبيرة، تلبّي حاجات البلدين، وتخفف عنهما تكاليف الإستيراد بالعملات الصعبة؟ ألا نستحق أن نعود لنفكّر بالتعاون المشترك لمصالح مشتركة؟
بين لبنان وسورية حالة خاصة، فرضها التاريخ والجغرافيا والنسب الواحد، والقرابة بين العائلات، والإرادة الإلهية، وإذا كانت بين الدول مسافات، فهي لا بد مؤقّتة ومصيرها الزوال…