رأي

بين الدولتين الموجودة والمنشودة

بقلم منجد شريف

ولدت في العام ١٩٧٦،كان عاماً مفصلياً بحيث إستعرت شرارة الحرب الأهلية قبل عام،لتبلغ أوجها بين الأحزاب المسيحيية من جهة و الفلسطينيين من جهةٍ أخرى.

دخلت سوريا لبنان في العام نفسه،بطلب من الجبهة الوطنية،التي كانت تمثل المسيحيين،و كان تدخلها بمثابة دعماً للصمود المسيحي بوجه الفلسطينيين،فقد تعسكر اللبنانيين كعادتهم في معسكرين،مسيحيي و مسلم،المسيحي يريد الدولة بالأرجحية المارونية التي أورثها الإنتداب الفرنسي،و المسلم يريد الشراكة الحقيقية في الدولة من خلال بعض التغييرات الطفيفة في النظام السياسي،تحديداً في صلاحيات رئاسة الجمهورية،و المناصفة في مقاعد المجلس النيابي و الوزراء،و الفئة الأولى في الوظائف العامة.

أدى ذلك الخلاف منذ نشأة الدولة عام ١٩٢٠ إلى الكثير من الصدامات السياسية،كان أبرزها عام ١٩٥٨،بعدما تعسكر كلا الطرفين في إصطفافٍ سياسي،فاليمين اللبناني إنضم إلى حلف بغداد،بينما اليسار إلى الناصرية بعدما كانت في عز زخمها السياسي.

تطورت الأحداث السياسية في المنطقة و العالم،و توفي عبد الناصر الداعم الأول للقضية الفلسطينية،و لكل البلدان المواجهة للإسرائيليين،و سبق وفاته حرب العام ١٩٦٧،و كانت صدمة له و لكل من علق الآمال على جيش مصر في دحر الجيش الإسرائيلي،بعدما إحتل الإسرائيليين بحرب خاطفة سيناء و الجولان و الضفة الغربية و غور الأردن،سميت نكسة،لتعليل الأمل بإستعادة الأرض المحتلة بإسرع ما يمكن.

خطط عبد الناصر ،بعد اصلاحات جذرية في صفوف جيشه، لحربٍ أخرى تعيد له و للعرب كرامتهم المطعونة،و التي سببتها صدقية عبد الناصر،و مكر الإسرائيليين،و الإختلاف الإستراتيجي للدول الداعمة لكلا الطرفين،الإتحاد السوفيتي و الأميركان.

لم يمهل العمر الرئيس عبد الناصر ليشهد هزيمة إسرائيل،فتوفي في العاام ١٩٧٠،بعد حرب إستنزاف مع العدو تكلل معظمها بالنصر،و كانت ساعة الصفر لبدء حربه الكبيرة قاب قوسين او ادنى،بعدما تلقى الدعم الكافي من السوفيات،تسليحاً و تدريباً و غطاءً سياسياً،لأن الأخيرة كانت معنية برد اعتبارها و اعتبار حليفها،جراء الخديعة التي اوقعها بها الأمريكان بعدم نية إسرائيل بمهاجمة الدول العربية،تلك الخديعة صدمت عبد الناصر ،خاصة و ان حلفائه السوفيات أكدوا انهم سيكونوا و الأميركان خصم من سيبدأ الحرب أولاً.

شيعت مصر الزعيم العربي،و خلف الرئيس أنور السادات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،و كانت حرب تشرين الخاطفة بين الجيشين المصري و السوري من جهة و إسرائيل من جهةٍ أخرى،حرباً قدر بها للعرب أن يلحقوا أول هزيمة لإسرائيل في تاريخها،هذا ما حدا بالأميركان إلى مد إسرائيل بجسرٍ جوي يعيد الهيبة للجيش الإسرائيلي،فكانت حرباً مستترة بين السوفيات و الأمريكان،إلى أن تم الإتفاق على وقف اطلاق النار و البدء بمسار تفاوضي بين العرب و إسرائيل.

قاد التفاوض وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر،و هو يهودي الأصل،و إستطاع أن يأخذ مصر إلى إتفاقية السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد،ساعده على ذلك ميل السادات السابق للحرب،فكانت حربه حرب تحريك و ليس تحرير،هذا التناقض فرَّق بينه و بين الرئيس حافظ الأسد،فخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي،و صارت سوريا وحيدة في مواجهة إسرائيل.

كانت كامب ديفيد محطة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي،و في خضم السعي الى اتفاقية السلام،جاءت الأحداث اللبنانية عام ١٩٧٦ بمثابة الحريق الكبير الذي يبعث دخانه لحجب الرؤية عن اتفاقية كامب ديفيد.

كان دخول سوريا الى لبنان برضى أميركي و معارضة سوفياتية،فكسينجر الداهية،قال للرئيس الأسد إذا لم تدخلوا لبنان فستدخل إسرائيل،و هكذا دخلت سوريا لبنان،بعدما شكل الطلب الرسمي من الرئيس سليمان فرنجية غطاء سياسياً رسمياً،بينما الطلب كان من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر.

شكل دخول الجيش السوري إلى لبنان أول سابقة في أن لبنان يدور في فلك الدول الكبيرة،و أن هشاشة التركيبة الإجتماعية فيه،أو في وجهة النظر إليه كوطن نهائي، سببتها الطائفية السياسية،و سعي كل طائفة إلى الحصول على دعم خارجي،كما جرت العادة إبان الامارتين والقائممقاميتين و المتصرفية،و كان ذلك الدعم هو الأداة الرئيسية للتدخل في الشؤون الداخلية،فكان الإنقسام اللبناني الطائفي،الصخرة التي تحطمت عليها نواة الدولة،فصار لبنان ساحة لحروب الآخرين على أرضه،و تصفية الحسابات الكونية.

كانت طفولتي في عز تلك التطورات الخطيرة،و في بداية الحرب الأهلية،فشهدت كل أشكال الحروب،و التي تقاتل فيها الجميع ضد الجميع و فيما بين بعضهم البعض،و كنا نكبر على أنين الرصاص و الصواريخ،و نتنقل بين المتاريس،و الحواجز،و المعابر،فلا وجود لدولة اسمها لبنان،بل دويلات تتقاسمها القوى المتصارعة،فالجنوب محتل من الإسرائيلي،و المنطقة الشرقية في بيروت تحت سيطرة القوى المسيحية،و باقي البلاد بين الوجود السوري و الأحزاب المتحالفة معه،و اما الوجود الرسمي للدولة فمختصر على عديد بسيط في القوى الأمنية و الجيش و موظفي الدولة.
كبرت و كبر معي الحنين إلى الدولة،فكانت إشارات السير و السلم الأهلي و كل مقومات الدولة طموحاً نحلم به،فالكهرباء مقننة،و الخبز والطحين و الدواء كله مقنن او مقطوع،و في ظل تلك الفوضى شكلت الهجرات القسرية لأبناء الشريط الحدودي و لباقي المناطق الريفية حزاماً بشرياً،أخذ يتنامى في البناء على مشاعات الدولة في كل العاصمة و ضواحيها،و معها تشرعت التجاوزات و صارت نمطاً متبعاً في البناء العشوائي و التعدي على شبكات الكهرباء و الشفا،و المجاري و الصرف الصحي،و كذلك التهرب الضريبي و كل أشكال الرسوم حتى أوشكت الدولة أن تنتهي من فكر كل من ولد لبنانياً،و لاحقاً كان هذا النمط سبباً رئيسياً في فشل بناء الدولة الحديثة،و لا زال هذا النمط العقبة الكؤود امام تحقيقها.

كانت تساؤلاتي مستمرة و أبرزها :
هل الدولة موجودة!!! و ما هي الدولة المنشودة؟!!!
تساؤل لم أعرف إجابته إلا عندما كبرت و دخلت الجامعة و قرأت و بحثت و استنتجت الكثير .

فالدولة الموجودة هي فدرالية طوائف تتجاذبها الأحداث الخارجية،بين القوى الإقليمية و الدولية،و تنعكس تلك الأحداث تبعاً لتلك العلاقات،و أن وجود دولة الإحتلال الإسرائيلي هو خط زلالزل و بركاني،لا يلبث أن يهدأ حتى يعاود حراكه،و أن الطائفية هي العامود الفقري لكل تخلف عن فكرة الدولة الحديثة،و غطاءً لكل أشكال الفساد و المفسدين،و حصانة لكل التعديات و التهرب الضريبي،و عقبة أما أي إصلاح أو تغيير حقيقي.

أما الدولة المنشودة،فلا إمكانية لوجودها،لأن عقدة الطائفية متأصلة في كل النفوس،و إستئصالها محال،بعدما برهنت كل التجارب،عبر كل السنين المنصرمة،أن عمر الفساد أكبر من عمر الدولة نفسها،و أن الطائفية السياسة بوابة لكل أشكال التدخلات الخارجية،و أن الجارة العدوة عند الحدود الجنوبية أبرز المشكلات و أصعبها لجهة بناء الدولة الحديثة،و عليه ستبقى هذه الدولة الموجودة و لا أمل في دولةٍ أخرى مهما كان نشدانها قوياً،لأنَّ العقبة الكؤود في النفوس قبل أن تكون في أي شيء آخر،و هكذا علينا أن نعيش و أن يكون كل فرد منا هو الدولة و المواطن،حتى نستطيع بناء الدولة المنشودة،و إلا فلن ندركها أبداً،و قد لا تدركها كل الأجيال المقبلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى