
في زمنٍ مضى، كانت لنا جارة يصفها جميع سكان العمارة بأنها سيئة السُمعة. أما أنا، فلم أرَ منها ما يدلّ على ذلك بمفاهيمي الخاصة، غير أن معايير الآخرين كانت تراها على هذا النحو.
توفي والدها حين كانت في الرابعة والعشرين من عمرها، ثم لحقت به والدتها بعد عامين. ومنذ ذلك الحين، عاشت وحيدة حتى بلغت الثالثة والثلاثين. لم ترضَ أن تعيش مع أحد من أقاربها، واكتفت بوظيفتها في شركة عادية. كانت ترتدي ثيابًا أنيقة في نظري، ولكنها كانت تبدو متحررة جدًا في نظر جميع “الخالات” في العمارة.
منذ عشرين عامًا، كانت الفتاة التي تسهر خارج المنزل حتى منتصف الليل تُعدّ طائشة، فكيف بمن تخرج وتعود عند الفجر، أو تسافر مع أصدقائها بضعة أيام!
لم تكن علاقتي بها تتعدّى السلام حين ألقاها، وكانت والدتي كلما رأتني أصافحها تناديني، وما إن أدخل حتى تبدأ بتوبيخي، رغم أن الجارة كانت لطيفة جدًا معي.
وذات مرة، دقّ جرس الباب. فتحت والدتي، فإذا برجل لا نعرفه يسأل عن والدي. نحن عائلة لا تستقبل أحدًا دون موعد مسبق، فما بالك بشخصٍ غريب! ومع ذلك، دعاه أبي إلى الداخل.
كان الرجل في الأربعين من عمره، واتضح أنه خطيب جارتنا، وكان يسأل عنها الجيران، في زمنٍ كانت فيه مسألة “النَسب” تؤخذ على محمل الجد.
أخبره صاحب السوبر ماركت أن يتوجّه إلى شقة “القبطان”، فهو أقدم سكان العمارة، وكان يعرف والديها، وهو الأقدر على إفادته عنها.
وبهدوء، سأله والدي: من أين تعرفها؟
فأجابه: أنا أحد عملاء شركتها، وقد أعجبت بها عندما التقيتها، وتحدثنا، وأرغب في الارتباط بها.
سأله والدي: هل كنت متزوجًا؟
قال: نعم، وطلقت زوجتي قبل ثلاث سنوات، وأودّ أن أعرف عنها وعن أهلها.
قال له أبي: والدتها كانت سيدة طيبة، تُعدّ ألذّ قرع عسل بالبشاميل، وكانت ودودة، دائمة العطاء لجيرانها، وكنّا نحبها، لا سيما والدتي. أما والدها، فكان موظفًا ملتزمًا، لم أكن أراه كثيرًا بسبب سفري، لكننا كنّا نلتقي في صلاة الجمعة، ولم يُسئ إليّ أو لعائلتي يومًا، رغم أنه كان سليط اللسان، وكنت لا أرتاح له، ولكنّه لم يزعجني قط.
سأله الرجل: وماذا تعرف عن الفتاة؟
قال: ضحوكة أكثر مما ينبغي، جريئة، تأخذ الحياة برحابة صدر، وهذا طبيعي لوضعها، فهي وحيدة، فقدت والديها في سن مبكرة، وتحتاج إلى من يسندها. وفي المناسبات، كانت تختفي حتى لا تشعر بالوحدة.
كنت أنظر إلى والدي بدهشة، وأرغب في سؤاله: أأنت تعطيه معلومات أم تبرر له تصرفاتها؟ كأنك تحاول إقناعه بها.
فقال الرجل: أليس لديك تحفظات عليها، يا قبطان؟
أجابه: تحفظي الوحيد أنها كانت تعطي ابنتي ليلى أشرطة “مايكل جاكسون”، ذاك الشاب ذو الرقبة المتمايلة، وأشرطة “جورج مايكل” صاحب الوشم، وقد كنت أرفض أن تستمع إليهما ابنتي.
ازددتُ حيرة وضيقًا.
قال الرجل: وماذا عن ملابسها؟
فأجابه والدي: هذا شأنك.
قال الرجل: لكنها لا تتحجّب.
فقال والدي: ابنتي وأختي غير محجّبتين، ومع الوقت، لعلّ الله يهديهن. يا بُني، الحياة تُؤخذ بالتدرّج.
بدأ الارتياح يبدو على وجه الرجل، وابتسم. ثم نظر إلى والدتي وسألها عن رأيها، فقالت: بعد كلام القبطان، لا كلام لي. أصلح الله حالكما، وعسى أن تتخلى عن شقاوتها، فهي ما تزال حتى اليوم تدقّ الجرس وتفرّ هاربة.
ضحك الجميع، وبقيتُ مشدوهة. قلت في نفسي: يا أمي، ألم تعاقبيني أسبوعًا حين ركبتُ معها سيارتها إلى محطة الرمل؟ ألم تهجري شادي، أخي، لأسبوعين لأنه تحدث معها في مدخل العمارة؟! كنتِ دائمًا تقولين: “ما لنا إلا سمعتنا، يا ست ليلى”، وكنتِ تصرخين.
ذهبت إلى أخي وأخبرته أن كل الخلافات بين أبي وأمي بشأن فلانة كانت بسبب “رقبة مايكل جاكسون”، فضحك وقال: “والله لا أفهم شيئًا.”
المهم، رحل الرجل ثم عاد بعد يومين، وقال لأبي إنه قرّر الزواج بها، لكنه ما يزال مترددًا بسبب ما سمعه عنها.
قال له أبي: هل طلّقت زوجتك لأنك سيّئ؟
فأجاب: لا، بل كانت هناك ظروف.
فردّ أبي: أرأيت؟ جميعنا تُحكمنا الظروف، وإن تغيّرت، تغيرنا.
وتزوجا.
لكنني لم أنسَ الأمر. وفي جلسة صفاء مع والدي، سألته: لماذا قلت له كل ذلك؟
فردّ: هل كذبتُ؟
قلت: لا.
قال: لقد قلتُ له ما جاء ليسمعه، كي يطمئن، ويزول عنه التردد والخوف. كل إنسان فينا له أخطاء، وربما كانت جسيمة، لكن إذا تغيّرت الظروف، زالت الأخطاء. وقبل أن نصدر الأحكام على الناس، علينا أن نحتكم إلى الرحمة. كل شخص يحتاج إلى فرصة واحدة فقط كي تتغيّر حياته ويجد راحته.
قلت له: وترى أن هذه الفتاة فرصتها الوحيدة كانت في الزواج من هذا الرجل؟
قال: نعم. لو لم يكن يحبها، لكان أول من ذمّها، لكنّه ظل يبحث ويسأل، يدور ويستقصي، يبحث عن يد واحدة فقط تقول له: “أقدم، واطمئن.”
وحين وجدت أنا تلك اليد التي سترفعه وتدفعه إلى الأمام، لم يكن من الصواب أن أبخل عليهما بهذه الفرصة.
وأصبحت تلك الفتاة أمًّا رائعة، وزوجة محترمة، وظلت علاقتي بها طيبة إلى أن سافرت إلى الكويت مع زوجها وابنتها.
وحين توفي والدي، جاءت من الكويت لتعزّينا، وذهبت وحدها إلى المقابر لتقرأ له الفاتحة، وقالت لي: “لولاه، لكنت الآن في الجحيم.”
فحكيتُ لها عن نظرية والدي في “الفرصة”، فقالت: “صحيح، كنتُ أحتاج فرصة واحدة فقط لأعيش.”
ومنذ ذلك اليوم، حين أرى شخصًا يبدو سيئًا في نظري، أو في نظر الآخرين، أحرص على معاملته بلطف، وأتجنّب الترفع عليه، لأنني أقول في داخلي: تُرى، كم من الناس بخل عليه بالفرصة؟ وهل ستأتيه هذه الفرصة أصلًا، أم ستنهشه الناس قبل أن تصل إليه؟
وأقول لنفسي دائمًا: “اللهم أغنني عن الحاجة إلى فرصة يمنحني إياها أحد.”
فلا تقسوا على أحد، مهما بدا سيئًا.
وحين تُسألون عن شخص، قولوا ما رأيتم بأنفسكم، لا ما سمعتم.
وتذكّروا دائمًا أن كلماتكم قد تكون الفرصة التي يحتاجها أحدهم ليحدّد بها مصيره ومستقبله في الحياة والمجتمع…