أخبار ثقافية

الكتابة كمأوى لقلق الإنسان في زمن اللايقين: قراءة في رواية فيليب المسنّ الجديدة

بين الهندسة والكتابة، يختار فيليب المسنّ طريقًا ثالثًا: التنقيب في الذات البشرية. الكاتب اللبناني المقيم في فرنسا، لا يكتفي بالمراقبة من بعيد، بل يغوص عميقًا في التجربة الإنسانية، واضعًا قلق الإنسان وهشاشته في قلب مشروعه الروائي. في عمله الثالث، الصادر عن “الدار العربية للعلوم – ناشرون”، والذي حمل عنوانًا مثيرًا للتأمل: “قصة هذا الإنسان غريبة”، لا يتعامل المسنّ مع الرواية كمنتج أدبي جاهز للتسويق، بل كتمرين فلسفيّ مفتوح، كمحاولة لفهم الذات في مرآة الواقع.

الرواية، التي جاءت بصيغة سردية غير صاخبة، تطرح أسئلة لا تسعى إلى إجابات، بل إلى صدى داخليّ عند القارئ. فيليب لا يهتم كثيرًا بالبناء التقليدي للحبكة، بل يوجّه اهتمامه نحو تفاصيل الإنسان المتناقضة، ذلك الكائن المحكوم بالتأرجح بين الإيمان والإنكار، بين الرغبة في الفهم والعجز عن اليقين.

ذات متشظّية تبحث عن خلاصها

لا شخصية مركزية خارقة في هذه الرواية، بل بطل عادي اسمه “أبيض”، يبدو أقرب إلى كاتبٍ قرّر أن يتوارى خلف قناعه، أو ربما أن يعرّي نفسه بالكامل. أبيض ليس بطلًا، بل حاملٌ لقلق لا يُحتمل، رجل يعيش في مواجهة صامتة مع الأسئلة التي لا إجابة لها. وجوده يشبه حالة الوقوف المستمر على الحافة: حافة الوعي، حافة اللغة، حافة الانتماء.

المسنّ لا يسعى إلى حبك درامي، بل إلى تفكيك طبقات التجربة البشرية. الشخصية الرئيسية ليست سوى أداة لكشف صراعات داخلية يعيشها الجميع دون أن يملكوا مفاتيحها. وكأنّ الرواية تصرخ من دون صوت: “من نحن حين نُترك وحدنا مع أفكارنا؟”.

لا أسئلة نهائية ولا أجوبة مطمئنة

العمل لا يخفي نزعته الوجودية، ولا يتردّد في ملامسة مناطق العدم. ومع ذلك، لا يغيب الإيمان عن النسيج السردي، بل يتسرّب كتيار خفيّ يعبر الكلمات. المسنّ لا يروّج للإجابات الجاهزة، بل يرى في الإيمان حالة شعورية تتجاوز المنطق، طوق نجاة هشّ في بحر من الشك. الله، في روايته، ليس حضورًا مذهّبًا، بل احتمال ضروريّ لئلا يُبتلع الإنسان في فراغه الداخلي.

الكتابة كفعل مقاومة داخلية

في عالم يركض نحو الضجيج، يتعامل المسنّ مع الكتابة كوسيلة تأمل لا كصنعة. يرى فيها مكانًا لمواجهة الذات قبل مواجهة القارئ، ساحة للتعرية، لا للتزيين. الرواية عنده ليست سردًا للأحداث، بل اختبار للوعي، وربما محاولة لترميمه. كل فقرة تبدو كأنها محاولة لفهم العالم دون أن يدّعي القدرة على تفسيره.

هو كاتب يؤمن بأنّ الثقافة ليست تراكم معلومات، بل طريقة نظر. يعتبر أن الأدب ليس مجرّد أداة للتسلية أو التعبير، بل ضرورة فكرية توازي العلم في قدرته على صياغة الوعي الإنساني.

الذاكرة كقيد جميل وعبء ثقيل

في ثنايا العمل، تتكرر الإشارات إلى الطفولة، لا بوصفها زمنًا مقدسًا، بل كمخزنٍ لتجارب صغيرة ترسم خرائط الكبار. الذاكرة، في سرد المسنّ، ليست مفتاحًا للحرية، بل في أحيان كثيرة، قيد جديد نجرّه معنا. الماضي لا يُقدَّم كملاذ، بل كمساحة للتأمل في الجراح غير الملتئمة.

الكتابة بلغة القلب والمنفى

ورغم إقامة الكاتب في فرنسا، يصرّ على الكتابة بالعربية، ربما لأنّها، بالنسبة له، لغة التكوين الأول، أو لأنها الأداة الأصدق في التعبير عن دهشة السؤال ومرارة الانفصال. في روايته، نجد حضورًا خفيًا للمنفى، لا بوصفه مكانًا جغرافيًا، بل كحالة شعورية يعيشها الإنسان حتى داخل وطنه.

الرواية كموقف لا كمهنة

فيليب المسنّ لا يرى الكتابة مجرّد مهنة، بل التزامًا. لذلك ينتقد السائد من الإنتاج الثقافي الذي يرضي السوق على حساب العمق. في أحد مقاطع العمل، يتساءل بمرارة عن جدوى أن يتحوّل الكاتب إلى صدى لما يريده الجمهور، لا لما يراه ضروريًا.

الرواية دعوة صريحة، وإن جاءت بلغة هادئة، إلى مقاومة الاستسلام، إلى البحث عن الذات وسط ضجيج العالم. لا تبيع أوهامًا، ولا تعِد بخلاص، لكنها تذكّرنا بأنّ طرح السؤال فعل تحرّر، حتى وإن ظلّ بلا جواب.

خاتمة: صوت خافت في وجه العبث

“قصة هذا الإنسان غريبة” ليست رواية عابرة، بل عمل يتطلب قارئًا مستعدًا للتورّط. إنها رحلة في العمق، لا في الحدث. ليست دعوة للاكتشاف بقدر ما هي دعوة للتوقّف، للتفكير، وللاعتراف بأننا لا نملك إلا هشاشتنا كوسيلة للبقاء.

في عالم لا يتوقف عن المطالبة بالتأقلم، يقدّم لنا فيليب المسنّ نصًا يتبنّى الارتباك كحالة شرعية، ويذكّرنا أنّ الغرابة قد تكون وجهًا آخر للحكمة المنسيّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى