أخبار فنّيةرأي

عندما تعانق الروح النغم

بقلم: نجلاء العباسي،

محافظة متحف الآلات الموسيقية،

بمركز الموسيقى العربية والمتوسطية/ النجمة الزهراء. تونس

‎في مسرح الجهات بمدينة الثقافة، تجلّت الأمسية كقصيدة نورانية حيث التقى صوت السماء بلغة الجسد في تناغم يأسر الروح والفؤاد.

‎”فيروز الحرية المقدسة” فيلمٌ فرنسيُّ لدومينيك دولابيار حملنا في رحلةٍ إلى عالم لمياء صفي الدين ملهمة الفيلم الوثائقي. تلك الفنانة التي حوّلت الألحان إلى حركات والكلمات إلى إيماءات. كانت رقصتها حواراً صامتاً مع الموسيقى كل خطوة منها تحكي قصة كل انحناءة تعبر عن حرف من حروف الغناء. فيروز تغني ولمياء تترجم وكأن جسدها أصبح لساناً لهذا الصوت الملائكي.
‎كيف لي أن أصف ما رأيت؟ صوت فيروز كالينبوع الصافي ينساب في مسامات الروح وجسد لمياء صفي الدين يترجم النغمات إلى لوحات راقصة تخاطب ما وراء الكلمات. كأن الموسيقى تحولت إلى رؤى بصرية والحركة إلى ترانيم.

‎وقف الزمن في تلك القاعة المسكونة بالإبداع وتماهت الأرواح مع كل نغمة وكل حركة. فيروز بصوتها الشفاف العابر للأزمنة ولمياء بإيماءات جسدها المتمردة وكأنهما وجهان لقصيدة كونية واحدة.

‎ثم أطلّ علينا الإعلامي لطفي البحري الذّي قدّم قراءة شاعرية وعميقة لفيروز من خلال أربع زوايا: الأرض، المرأة، الجسد، والذاكرة بصوته الدافئ وكلماته المنسوجة بخيوط الحنين. كان كمن يقلب صفحات ألبوم قديم كل صورة فيها عطر من الماضي يحمل رسائل الحنين والانتماء ويرسم خارطة جديدة للروح العربية المسكونة بالألم والأمل معاً. ليلى حجيج ولمياء صفي الدين أضافتا لمساتهما فاكتملت الدائرة وأصبحنا أمام لوحة فنية متكاملة الألوان.

‎جلستُ هناك كأنني أسيرة مثل أوليس تسحرني أصوات الحوريات لكنه أسرٌ طوعي لذيذ. لم أعد أميّز بين الموسيقى والحركة، بين الصوت والصمت. كان كل شيء يتحول إلى نبض واحد يعيد تشكيل الوجدان والذكريات ورائحة الزمان الجميل.

‎ولأن الجمال لا يُختتم إلا بما يوازيه، جاء عرض بالي أوبرا تونس ليكون تتويجًا لتلك الرحلة، عرضٌ وُلد من ورشة أشرفت عليها لمياء صفي الدين فكان امتدادًا حيًا لذلك الحلم الفني الذي بدأ برفة نغمة وتحول إلى مشهد حيّ يخاطب المشاعر.

‎غادرتُ القاعة وقد استوطنتني فيروز من جديد لا كصوت فقط بل كحالة وجودية كاملة. شعرت أنني لم أكن مجرد متفرجة بل جزءًا من قصيدة كونية كُتبت بلغة الروح والضوء.

‎كانت الليلة أكثر من عرض، كانت رسالة حب تهمس إلى أعماق أرواحنا دعوة إلى أن نعيد الإنصات للحن الحياة بنقاء ودهشة.

‎لعلّ السؤال الذي حملته معي بعد تلك الليلة: هل ما رأيناه كان مجرد عرض فني أم رحلة فنية في محراب الجمال؟ الأكيد أنه كان لقاءً لا يُنسى مع الجمال حين يتجلى في أبسط وأعمق وأصدق صوره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى